WhatsApp Image 2025-08-17 at 13.50.56

صُبحْ والسيدُ كوفيد (1)

كانت تكتب من دون أن تمسك قلماً، ذهنها لا يهدأ، كلام في عقلها يتطاير، بعضه تسجله ذاكرتها وبعضه يتلاشى كالضباب، هذا ما أخبرتني عنه صبح واستمرت بعد ذلك في وصف ما حدث قائلة:” كنت أكتب صفحات وراء صفحات وأخزن خواطر وعبارات في عقلي وقلبي، لم يكن عندي قلم ولم تكن معي أوراق بل في الواقع لم يكن عندي غير هاتفي لأكتب في ملف الملاحظات ما يعتلج في صدري من بركان الأفكار، هاتفي المسكين لم يحز على اهتمامي وهجرته بعد أن كان جليسي وخاتم كفي.

كان اهتمامي منصباً على استيعاب ما يحدث وعلى كينونتي وسط هذه الأحداث المتسارعة، كان من غير اللائق أن اقتحم المشهد ببرود الكاتب وأطلب أوراقاً وقلماً وخاصة أنني كنت على سرير مرقم بأعداد من يرقد عليه من مرضى كوفيد 19، كانت عيناي معلقتين لمشاهدة ما يحدث في ساحة الجهاد، جهاد في سبيل الله حقاً، أبطاله أطباء وطبيبات وممرضون وممرضات ومن خلفهم صفوف من المجاهدين الأوفياء.

لم يكن العدو ليظهر أمام العين فهو يرقد في أجساد المرضى، كانت ساحة معركة بين فيروس متخفٍ وضحايا من هنا وهناك يئنون وأبطال ملثمون لا ترى غير أعينهم، كانت صبح تعاني من نقص الأكسجين وانخفاض الضغط وتسارع دقات القلب، كانت ترقد على سرير المرض وتراقب ما يحدث، وتتذكر أن الجهاز الذي ربط بجسدها عن طريق الإصبع يكاد يعرف ما يحدث في الرئتين والقلب والدماغ  وكل عضو من أعضاء جسدها الممدد أكثر مما تعرف هي.

توجد لغة تفاهم سريعة بين الأطباء والجهاز وتلك اللغة التي تعتمد الرموز والحروف الطبية في أغلب الأحيان تكون لغة مشفرة لا يُدركها المريض عادة إلا البعض ممن يتحرى المعرفة ويكثر من الاستفهام وطرح الأسئلة، تقول كنت أنظر إلى الطبيب والممرضة وهما يتحدثان ويقيمان حالتي الصحية وكأن الجهاز يشاركهما الحديث مني وعني، أدركت حينها معجزة الله في خلق الإنسان، وفتحت أمامي صفحات من الوعي بالجسد المادي.

وفي غمرة هذا الصخب الهادئ من المراقبة والترصد اقترب منها الطبيب بعد أن تحاور وتشاور مع الفريق الطبي المسؤول عن خطة العلاج وقال بنبرة جادة وحانية في الوقت ذاته: صبح معنوياتك تهمنا، ساعدي نفسك. تقول صبح: هنا لا أدري ما حدث، نشطت في عروقي دماء جديدة، شعرت بأنَّ في داخلي كوناً عظيماً،  ومرت في ذاكرتي حالات من المرضى الذين كنت أزورهم وهم يعانون آلاماً مبرحة ويناضلون من أجل البقاء ويتمسكون بحبل الحياة ثم يعودون بشغف جديد وطاقة متجددة.

واصلت صبح الحديث: قد تعلو بك كلمة عباب السماء، وكلمة أخرى قد تدفنك في جوف الأرض، فتغدو كالنعامة في أحسن الأحوال. ما قاله ذلك الطبيب المرابط قلب موازين الساحة في غضون ساعات فأصبحت من مريض مُهدد إلى متعافٍ يحدوه الأمل بالشفاء. إنها تتذكر عينيه اللامعتين بالمعرفة والخبرة وكما تقول قد يكون أحد ثلاثة من الأطباء في أسمائهم كلمة الحمد، فهو محمود أو أحمد أو محمد، طبيب شاب في مقتبل العمر لا يظهر من وجهه إلا عيناه، تدرع كغيره في مواجهة الفيروس ورعاية المرضى.

أردفت صبح بعد صمت وكأنها تربط في لحظتها بين موقفين: زارتني في اليوم التالي إحدى الطبيبات المرابطات في ميدان المحبة وكأنها قد اتفقت مع زميلها على أمر لا أعلمه، بهدوء شديد أمالت رأسها المحجب تمامًا والمسقف بالعازل البلاستيكي وأرسلت ابتسامة عذبة رسمت على جانبي عينيها خيوطًا حريرية من شدة عذوبتها، وبلطف ناعم قالت: صبح أنت تتعافين بشكل واضح، استمري في مُمارسة تمارين التنفس. مؤشرالأكسجين يرتفع في رئتيك وهذا يعني أننا سنلجأ إلى تقليل اعتمادك على الجهاز. نزين؟ الطبيبة تسألني. أجبتها بكل ثقة: نعم، أستطيع. جعلتني بذلك شريكاً في كسب هذا المضمار الأبيض. لقد أصبحت أذني تلتقط مشاهد من هنا وهناك فيها لطف رباني وحنو على المرضى وخاصة كبار السن، وعيني تسمع عبارات  تشد من أزر المريض وتشحذ همته نحو العافية. ولا أنسى صوت المُمرضة وهي تقول لإحدى كبيرات السن من أمهاتنا: أمي لا تقلقي، نحن معك، أنت بخير، اطمئني.

تصفحت صبح هاتفها بعد مدة من الهجر وإذا بأشعة حب تخترق الفؤاد فتصيبه بالعافية، مادتها الحية كانت أدعية المحبين وانتقاءات المقربين من كلمات التعافي الجمعي. إنها لغة تفهمها الروح وتفسرها النفس ويكتبها الجسد من غير اعتلال أو خوف، تقول صبح ساعدتني هذه الرحلة على التأمل وعلى الحضور وانتقلت إلى حديث النفس، أكرر أذكاري وآيات من القرآن الكريم وعبارات مرتجلة بسيطة تشحذ الهمة وتقوي العزيمة نحو الشفاء، فتولدت كلمات وكلمات حتى غدا لدى صبح قاموس جديد الفصل الأول منه يبحث في العلاج بالكلمة الطيبة.

WhatsApp Image 2025-08-17 at 13.50.58

صُبحٌ والسيد كوفيد

هناك في زاوية من البيت ارتمت صُبح في أحضان السكينة، أخذت نفحة نقاء تسري رويدًا رويدًا في جسدها الذي أصابه الوهن، قلبها يُصلي وعقلها في سجود. ساد الصمت المهيب تلك الزاوية، لا كلام، لا أحد، لا أفكار. حالة استثنائية من الحياد التام اتجاه كل شيء، كل شيء بمعنى الكلمة. حالة من فقدان الذاكرة وهي حاضرة، ومن تبسيط الأحداث وهي معقدة، ومن التفكير المستمر إلى الركون والاستسلام، ومن الحركة اللا مُستقرة بين جنبات الحياة إلى سعي في النفس والروح، ومن هناك إلى هنا، ومن الماضي إلى اللحظة، ومن المستقبل إلى الآن، ومن الخوف إلى الحب والانسجام، ومن الثرثرة إلى الصمت.

تقول صبح: أصبحت أعرفني أكثر وأرحمني أكثر وأكثر وأحبني أكثر وأكثر وأكثر، أظن أنني كنت في حاجة للقاء السيد كوفيد في زمن كورونا الذي سيؤرخ في تاريخ البشرية الطويل. بعض اللقاءات استثنائية ولا تتكرر ومعها رسالة عظيمة لمن ألقى السمع وهو شهيد ولا أدعي أنني كذلك فأنا ما زلت لا أعرف ولا أعلم ولا أدري.

اقتربت منها بتعاطف تام وقد عقدت حاجبي ولممت شفتي وسألتها بصوت حزين عن الألم إن كان مستمرًا. ابتسمت صبح ابتسامة خجلى جعلتني أبحر في عينيها علي أن أصطاد الجواب وهي في هدوء جم يثير الاستغراب، لكنها كعادتها لا ترد سائلاً فأجابت: الألم مفتاح الأمل، إنه زر التشغيل لكل الجمال الذي في نفسك وبين يديك وأنت غافل عنه، إنه الإشارة الحمراء لمواصلة طريق الحياة وأنت في زحام قد تظنه حقيقيًا. إنه وصلة الروح التي تربطنا أنا وأنت وهم – بنو البشر- في اتصال إنساني لا يعرف تعصبا ولا حقدا ولا كراهية.

لا أنكر أن لعاب أسئلتي قد سال وكاد يفضحني لولا قوة خفية في صبح أوقفت لجاجتي هذه التي أخجلتني من نفسي وأصبحت في حالتي هذه من يحتاج الدعم والمواساة. حاولت العثور على مداخلة تعطي صبحاً انطباعا جيداً بأني أفهمها لكنني لم أجد كلمة ولا عبارة مناسبة، لذا حبذت السكوت ريثما أستعيد رباطة الجأش مرة أخرى.

في هذه الأثناء قالت صبح: لا وقت لديَّ إلا للحب، ولذكر المعروف، وللخير، وللجمال، وللتطوير والتغيير، وللتعمير والبناء. فعلاً لا وقت لدي إلا لي، أثبث قلبي وأهذب نفسي وأرقى بعقلي وأتعرف رسالتي. غبت طويلاً عني حتى جهلتني، أهملت نفسي حتى لم أعد أعرفني، نسيت ملامح الطفلة داخلي حتى تكور عليها الخوف وما عادت تشعر بالدهشة من أي شيء. وأما مكان ذلك كله فهو القلب، وما عدا ذلك من المتناقضات لا وقت لي معها. صديقتي العزيزة أنا عدت إليَّ من جديد. قولي لي مبارك.

 ومن نافذة الغرفة أشارت صبح إلى طائر صغير يشرب من إناء ماء تعودت أمها أن تضعه في ركن من حديقة المنزل وبجانبه فتات من الخبز والبسكويت. تنفست صبح الصعداء وأضافت: مررت بهذا المشهد من قبل لكني لم أعره أي اهتمام بل ما اعتبرته لذاته شيئاً يستحق الانتظار أو النظر أصلاً، أما الآن فالوصف والشعور مختلفان. كنت هنا ولست هنا. كنت بين زمنيين، الأول منهما ولى واندثر والثاني في علم الغيب. لحظات مرَّت مع صبح جعلتني أشعر بأن أقدامي على الأرض ولكني طليقة متحررة من أية فكرة وأشاهد ذلك الطائر وأستمتع بكل تفاصيل المكان والزمان، شعرت بالسعادة تغمرني والبهجة تنتشي في وجداني.

طلبت مني صبح أن أمشي خلفها وهي تحمل في يدها صندوقا مصنوعاً من خشب الزان، طرزت جوانبه بخيوط من الحرير. في هذا الصندوق صور قديمة أخذت بكاميرات زمن الطيبين كما يسميه البعض. أخذت صبح تقلب ألبومات الصور وتحدثني عن تأريخ كل صورة وفجأة اكتشفت وهي غارقة في الشرح بأن جميع أمنياتها قد تحققت عبر مسيرة حياتها فقد كانت تكتب خلف كل صورة أمنية تريدها. كانت قد تمنت أن تكون مُعلمة فصارت معلمة، ثم تمنت أن تكون مديرة مدرسة فصارت مديرة، وتمنت أن تلتقي بالمعارف والثقافة وآفاق الفكر في وسط مختلف فالتقت بها في ميادين كثيرة داخل البلد وخارجها، وتمنت أن تنجب أطفالا فصارت أماً لأبناء تقر بهم العين وتسعد، وتمنت أن يكون لها منزل جميل فكان لها ما تمنت. أمنيات صغيرة وكبيرة ولكنها قد تحققت. صعقت صبح وانكشفت عنها غشاوة وصمتت كعادتها وعيناها تذرفان الدموع وقلبها يجهش بالبكاء ثم ركعت لله حمدا على ما وهبهها من النعم الكثيرة التي ما استطاعت أن تحصيها.

رفعت صبح كفيها، وعيناها معلقتين في الفضاء الواسع، كانتا تشعان إشراقا ووجهها كأنه القمر والشمس معاً، وأخذت تقول: من يرزق عمرا جديدا لا يتشكى ولا يتذمر؛ بل يصبح أكثر الناس حمدا، وفي كل يوم سيتكشف له معنى الحمد حتى يهدى إلى الصراط المستقيم. هو طريق تكون فيه أشواك الغفلة مغروسة في زهو ر الطاعات، ولا تزال تلك الأشواك من هذه الطاعات إلا بالحمد لله رب العالمين.

كنت أحاول أن أفهم مشاعرها وأفكارها ولا أنكر أنني كنت حذرة معها ومتطفلة عليها في هذه اللحظات، لذا قلت حتى أجر حوارا جديدا مع صبح: لا عليك يا عزيزتي، تمنعنا الحياة أحيانا من إدراك النعم والتمتع بها. التفتت إليَّ صبح وقد توردت وجنتاها وعلت في محياها فرحة غامرة ما استطعت إليها سبيلا، ثم أردفت قائلة: مسكينة هي الحياة التي قذفناها باتهامات باطلة ورميناها بحصى غفلتنا، إنه الخوف يا صديقتي ليس إلا. الخوف العالق في نفوسنا من كل شيء حتى من الفرح والبهجة بل حتى من الله، تعلمنا الخوف وجهلنا الحب. الخوف الذي سيطر على أحد الفتيان في المشفى من كوفيد، سمعته وهو يصرخ صراخًا يدمي القلوب. لم يكن يصرخ من الألم لأنّ الآلام متشابهة؛ بل كان خائفا وجلا مرتعدا، في حين كانت هناك عجوز كبيرة في العمر، تحاول جاهدة التشبث بخيوط الأمل رغم الألم، صامتة في خشوع مستبشرة ومطمئنة تكرر عبارات الحمد. الفرق بينه وبينها كان فارق العمر وخبرة الحياة. أتعلمين يا عزيزتي إننا نستطيع تعلم الحب حتى نُواجه مخاوفنا بقلب المؤمن، فهناك الكثير من المفاجآت القادمة في هذا الكون المتغير.

WhatsApp Image 2025-08-19 at 23.26.09

تأمُّل إنساني في ظل كورونا

سُمية السليمانية *

* استشارية في مناهج العلوم الإنسانية

تعجُّ وسائل التواصل الاجتماعي -مُتنقلة بين نقاط أشبه بشبكة عنكبوتية- تتشابك خيوطها بأشكال وأنواع ولغات مختلفة من الأخبار والمعلومات والتحليلات والأحزان والنكات واللطائف.

وفي خُلوة الكتب التي تشدني، رغم ما يغلف الجو النفسي والفكري والثقافي والديني من فيروسات بشرية مُضرَّة أو بكتيريا بشرية نافعة، ترمي بثقلها علينا من كل حدب وصوب، بقصد أو من دون قصد، عدت إلى قائمة كتبي، وقررت إنهاء آخر كتاب علق في يدي.

قلبتُ آخر صفحة من رواية “قواعد العشق الأربعون” لإليف شافاق، وكانت ثمَّة أسئلة عالقة في ذهني عن الأسباب ونتائجها والأحداث ووقائعها والشخصيات ومشاعرها، يعرف من قرأ هذه الرواية ماذا أقصد بهذا الربط التحليلي. عرجت إلى كتب التنمية الذاتية والبشرية التي أملك منها قرابة العشرين عنواناً  أو تزيد، وأخذت أسجِّل في دفتري العبارات التي شدتني وهي كثيرة. بدأت في كتابة الفئات التي تأثرت بما يحدث في مارس 2020م، فوجدت أنها ثنائيات إنسانية وعندما عمدت إلى تصنيفها، أبت إلا أن تمثل في المطلق “الإنسان”.

وفي خُلوة القراءة التأملية كانت آيات القرآن الكريم حاضرة في تفسير ما يحدث أو التدليل عليه، ولا أدعي في ذلك علماً، لكنني على يقين بأنَّ هناك من يستطيع كشف باطن المعاني واستحضار العبرة والدروس المستفادة لتُعِين المؤمن على فهم المنحة قبل المحنة وتذوُّق الأمل قبل الألم.

انزويتُ قليلاً، وحاولتُ الرسمَ بأنامل صغيرة غير مُكتَرثة بما حولي، حتى وجدتني أمام صورة جميلة باهية، رسمتها بقلم رفيع غاية في الدقة، ولوَّنتها بألوان زاهية فاتحة على ورق ناصع البياض، تمعَّنت النظر فيها بكل فرح وبهجة، لكنني تراجعت قليلا للوراء عندما تذكرت أنني قد رأيت ما رسمت قبل ذلك، لم يستطع ذهني أن يأتيني إلا بشخوص أعرفها، ومناظر ألفتها، وأحداث ممكنة، وتفاصيل معهودة ومعلومة؛ فكانت رسمتي عادية بسيطة مكرورة.

تركتُ زاويتي ورسمتي البائسة، وعدتُ إلى ركني أفكر في الأجمل مما تصورت، عصرت ذهني علَّني ألتقي بشخوص لم أعرفها من قبل، وأغمضتُ عيني علني أرى في الظلام نورا لحدث جديد غير مُتوقع، وأصغيت إلى الأصوات من حولي علَّني أسمع سرًّا يُعينني على فهم ما كان وما يكون وما سيكون. وعدت أقلب صفحات الأحداث من حولي، وألزمت نفسي بعيش اللحظة في مكانها وزمانها.

بعد مُضي أسبوع حاولتُ أن أكتب قصة تسجل رقمًا قياسيًّا في عدد القراء، انسابَ قلمي في سرد الأحداث وإجراء الحوار وتخيُّل الشخصيات الرئيسية والثانوية وصناعة التفاصيل، ووصف المشاعر والمواقف بكل احتراف، وددتُ أن تكون القصة ماتعة تشد القارئ وتسيطر على فكره، وتثير مشاعره، حتى ينهي آخر سطر فيها، لكنني أدركت حينها أنَّ ما كتبته صورة نمطية مكرورة بشكل أو بآخر.

عُدت للمحاولات الواحدة تلو الأخرى، فخارت قواي عن تصوُّر جديد، حينها أخذت ورقة من مكتبي الصغير وتناولت جهازي الخاص وسجلت اعترافاً مفاده “وخلق الإنسان ضعيفاً”؛ فالله هو الخالق الذي يعلم ما كان وما لم يكن، ولو كان كيف يكون، فإنَّ قَصُر وعينا عن فهم ما كان، فإننا بجميل الطلب منه جل شأنه وصدق الدعاء سنكون ما سيكون، وسيتكشَّف للجميع فرادى وجماعات ذلك السر وستنجلي الحقيقة عن رسائل الله.

ارسموا لوحات حياتكم الجميلة، واحكوا قصة يومياتكم المثيرة من الآن، وغلفوا ما رسمتم وكتبتم بالدعاء الصادق والطلب الجميل.

sumaiya-1

نحن وأطفالنا في البيت

عندما كنت في المرحلة الابتدائية كثيراً ما شعرت بالضجر بعد أن أنهي ساعات الدراسة في إحدى مدارس نزوى السامقة قبل أكثر من ثلاثين عاماً، كانت أدواتي في المرحلة الابتدائية لا تتعدى الكتاب المدرسي والدفتر والأقلام والألوان الخشبية والممحاة والمبراة والمسطرة، لم أكن أملك سبورة خاصة أو دباسة أو خرامة في حافظة مزركشة ومطرزة ولا غرفة خاصة أشكلها وتشكلني. كنت أملك ذلك الكنز المفقود الذي أضاعه البعض في هذا الزمان بحجة الوقت وكثرة الانشغالات لكني أعتذر عن البوح به حتى أنهي مقالتي.


كانت البيئة من حولي جاذبة تسرب إلى الروح مزيجاً عبقاً من الروائح والمناظر والأصوات حد الذوبان، حيث خرير مياه الفلج وحفيف صوت الزورورائحة حرق هول النخيل ونقيق الضفادع أحيانا، والعين كلما غارت يمنة ويسرة تجد ما يسر الناظرين من أشجار اللومي “الليمون” والأمبا “المانجو” وصفوف أشجار النخيل الباسقة، وفتحات جدران الطين التي يخترقها الضوء محدثاً في النفس شعوراً بالبهاء، في احتواء عظيم للذاكرة تتأصل يوماً بعد يوم في حب الوطن وما عليه ومن فيه. حينها صادقت أوراقي لأسجل عليها ذلك الجذب الساحر وأصف في قلبها الأبيض كم للطبيعة من جمال آخاذ.


دعونا من الأمس وشاركوني يومي مع صغيرتي التي لم تتجاوز الخامسة من عمرها ضمن ثلاثي فارض نفسه لا محالة: هي ونحن والتطبيقات الالكترونية العديدة والبرامج الكثيرة في زخم غير عادي حتى أصبحت أشفق عليها من هذا السحب التقني الجارف. قد يقترح لنا أحدكم جدولاً ينظم يومها في استعمال تلك البرامج والتطبيقات، وقد تطلب منا إحدى الأمهات أن نشارك الطفلة متعة الاطلاع والتفاعل مع الأنشطة التقنية، وقد يرشح لنا متخصص برنامجاً وجده مناسبا للأطفال، يؤسفني القول بأن كل هذه الأقوال حاضرة وتنفذ بقدر ولا ندعي فيها المثالية ورغم ذلك عندما نتوقف تصرخ مارية في حالة هستيرية “ملل….ملل”.
لا تفتر حدة هذا الصراخ إلا بأنشطة تستعمل فيها يديها عندها تتضافر لديها حاستي البصر واللمس وتتحدث عن النشاط بكل طلاقة وسعادة حتى تنفذ أدوات الاستفهام التي تستخدمها وهي تسأل عن كل صغيرة وكبيرة. وكم يتضاعف حجم سعادتها إن تحركت أربة أنفها لتشم ما طبخت. لجأنا إلى أنشطة عملية مثل التلوين وتنظيم الأدوات الخاصة وتنظيق مكان الجلوس وتشكيل عجينة البيتزا والتمثيل والإلقاء، في هذه الأحايين فقط نجد مارية مفعمة بالحب والنشاط والبهجة والهدوء.
أعلم أن هناك من الآباء والأمهات من يبزنا في هذا التأطير التربوي ولكن في الحقيقة قادني هذا الأمر إلى التفكير في الفلسفة التربوية والتنظيم المنهجي الذي يتبعه واضعو البرامج الإلكترونية ومعدو التطبيقات المختلفة وإلى تعرف أنواع البرامج والتطبيقات وغاياتها وعلاقة ذلك بالمنهج التربوي الذي تتوافر فيه ضمانات تربوية وتعليمية في تشكيل أطفالنا من الناحية الفكرية والثقافية والجسدية والدينية والروحية، فكانت النتيجة أننا باعتبارنا أولياء أمور نقع في ذلك بين الضرورة والعشوائية.
إن العشوائية التي نستعمل فيها التعليم التقني فيها من الفقد غير المقبول لطاقات أبنائنا وإمكاناتهم وقدراتهم ما فيها، حيث يوجد فرق شاسع بين أهمية التعليم التقني الذي أتفق في ضرورة وجوده وبين العشوائية التقنية في الاستعمال التي قد تؤدي إلى تفتيت الإطار المنهجي البنائي المضمون لتربية أبنائنا وتعليمهم.


إن سباق المؤسسات المختلفة في إنتاج البرامج التعليمية التقنية وغير التعليمية في عالم التربية ينطوي على مخاطر جمة ما لم تكن ضمن الإطار المنهجي المدروس. وإذا ما تكلمنا عن العشوائية في الاستعمال علينا أن لا نهمل الحديث عن أهمية عملية الفحص لمحتوى تلك البرامج والتطبيقات ومكوناتها قبل عرضها على الطفل وهو دور الوالدين في حالة الحجر المنزلي الحالية وأما في المجمل فهي عملية مشتركة بين المدرسة والبيت.


عودة على بدء أود القول أن الأمس يعيد نفسه بشكل أو بآخر وتظل حاجات الإنسان هي ذاتها على مر الزمان. إن أطفالنا في احتياج مستمر إلى الاحتواء والحب والحنان بل المشاركة والسماح للطاقات بالظهور وسيسهم هذاعلى المدى البعيد في تحقيق التواصل والتفاهم من أجل أن تبقى الأسرة هي نبض الاستقرار وملجأ الاطمئنان بعد الله سبحانه وتعالى في عالم متغير يتقارب ويتباعد كما هو حادث الآن ؛ ليبقى أعضاؤها جسداً واحداً متماسكاً مهما انتاب المحيط الخارجي من ابتلاءات ولكم أن تتخيلوا ملامح ذلك العطاء الفطري وهذا القصد التربوي، ذلك كان كنزي العظيم منذ أكثر من ثلاثين عاماً وما زال.